العـودة إلـي مصـــر مـرة أخـري ..
لم يعد هناك بد من العودة إلي مصر مرة أخري لأنها النطاق الوحيد الذي نستطيع الحركة فيه بأمان, وداخله يمكن عبور الفجوة بين الأماني والحقائق, وعلي أرضه يمكن تطبيق السياسات والمبادرات التي نتوافق عليها سواء من خلال المؤسسات أو من خلال النقاش والحوار المفتوح في أدوات الإعلام المختلفة. فكما هي العادة اختطفت القضية الفلسطينية الاهتمام العام خلال الأسابيع الماضية حتي بعد ان توقف إطلاق النار, وذهبت القضية إلي منتديات اخري وصلت بها إلي ثلوج دافوس السويسرية. وحدث ذلك بينما هناك ازمة اقتصادية عاتية لاتزال الدول الكبري, والأكثر غني وتقدما منا, تحاول الامساك بها واكتشاف جوانبها ومعالجتها قدر طاقتها واستطاعتها, وبالنسبة لنا فإنها تهبط علي رءوسنا كل يوم في شكل اخبار سيئة. ويبدو انه لايوجد احد في الجوار يريد حلا لمعضلته, فحركة حماس في فلسطين لاتريد حلا إلا ويبدأ بالاعتراف بها ممثلا شرعيا وحتي وحيدا, للشعب الفلسطيني, وهي التي تعلم ان العالم لم يعط ذلك لمنظمة التحرير حتي وافقت علي القرار242, ولا أظنه سوف يعطي ذلك لحماس حتي تعترف اعترافا كاملا باتفاقيات أوسلو.
وعلي اي الاحوال فقد اختارت إسرائيل هي الأخري في انتخاباتها الأخيرة من ينكرون علي الفلسطينيين كل الحقوق, وفوقها من يريدون انكار حقهم في العيش علي أرض اجدادهم.
معني ذلك ان شئون البلاد سوف تدار خلال المرحلة المقبلة في إطار ازمة عالمية طاحنة من جانب, وازمة اقليمية سوف نري مدي دمويتها بعد فترة قصيرة من جانب آخر, واذا كان علي مصر في كل الأوقات أن تقوم بالكثير من العمل والجهد من أجل إصلاح امورها, فإن ذلك بات مطلوبا مضاعفته الآن حيث الظروف معاكسة, فالقضية لم تعد فقط كراكب الدراجة الذي يصعد إلي قمة الجبل باذلا جهدا عظيما, وإنما باتت حدوث ذلك بينما تواجهه عواصف ثلجية وتنهمر عليه احجار انفكت لكي تواجهه وهو يسعي صعودا. ومادام انه لايوجد إلا القليل الذي نستطيع فعله لإصلاح احوال العالم, والنذر الذي نستطيع القيام به لتفادي الصدام المقبل في الشرق الأوسط, فانه بات واجبا علينا تركيز كل الجهود في مصر المحروسة لكي تستمر في الصعود حتي لو كان بطيئا ومجهدا.
وعندما سئل بيل كلينتون في منتدي دافوس حول النصيحة التي يوجهها لمن يريد الخروج من الأزمة الراهنة, قال بمجموعة من النصائح كان أهمها بالنسبة للسياسي نصيحتان, الأولي تعامل مع الازمة خطوة خطوة, وما عليك إلا ان تبدأ بواحدة فإذا ما نجحت انتقل إلي الأخري, وهكذا حتي تجد نفسك خارجا من المأزق الذي وقع الجميع فيه, والثانية ان الوقت الآن لايسمح كثيرا بالتردد والمراوحة, فاذا كانت هناك مشروعات جاهزة فقد آن أوان وضعها موضع التطبيق. وترجمة هاتين النصيحتين بالنسبة لمصر هي ان تتحول خطط الحكومة للتعامل مع الازمة الراهنة من نطاق الكلام إلي نطاق الفعل حتي ولو كانت هذه الخطوات قاصرة عن التعامل مع عمق الازمة, او ان الازمة تزداد عمقا بأسرع مما نتوقع, وعلي سبيل المثال فإن الخطوة الاساسية التي أعلنتها الحكومة هي تحفيز وتحريك الاقتصاد من خلال انفاق15 مليار جنيه علي قطاعات لها القدرة علي بث قدر من الحيوية في الاقتصاد القومي, ومع ذلك فإن الرأي العام المصري لايعلم إلا القليل عن تفاصيل هذا الإنفاق, وربما يمكن تفهم رغبة الحكومة في ألا توجد خلافات مجتمعية وسياسية حول أوجه وطريقة الإنفاق,
ولكن طبيعة الازمة لاتحتاج اقل من ذلك لاستنفار الرأي العام وإيجاد حالة من التعبئة الوطنية للخروج من أوضاع خانقة. ومن يظن ان قيام الحكومات المختلفة باجراءات متعددة لتحفيز الاقتصاد, ومثالها الكبير ما قام به باراك أوباما لاستنفار الطاقات المختلفة للشعب الأمريكي, يتم فقط من خلال طبيعة الاجراءات نفسها يخطئ في فهم الطبيعة المعاصرة للاعلام ودوره, والحوار السياسي وفاعليته, في إيجاد حالة الثقة المطلوبة للخروج من الأزمة.
وربما يكون للأمر في مصر أهمية أكبر, ليس فقط لطبيعة الاقتصاد النامي, ولكن لأن خطة المواجهة تتضمن تحريك15 مليار جنيه اضافية من خلال تسهيلات مقدمة للقطاع الخاص لكي يحرك رءوس امواله لتعميق السوق الداخلية بحيث تتحمل قدرا أكبر من الضغوط حتي تنجلي الغمة وتخرج البلاد من أزمتها.
بل ان القدرة الأكبر للاقتصاد المصري تكمن في تلك الايداعات الضخمة والمتراكمة لدي البنوك المصرية ولايجري طرح أكثر من53% منها للاستثمار العام, حيث ان مثل هذه لن تجد طريقها للاستثمار مالم تتوافر عوامل الثقة في ان الحكومة والقطاع الخاص قد شمرا عن اذرعهما للتعامل مع أوضاع حرجة.
مانحتاجه اذن هو قدر أكبر من الشفافية والافصاح والاعلان عما يجري, بحيث تتولد اكبر كمية ممكنة من الاهتمام العام بالقضية الاقتصادية والتنموية في البلاد لأن الازمة كما فيها مخاطرة يوجد فيها تلك الفرصة الكامنة في إجراء العديد من الاصلاحات الاقتصادية, ولعلنا لاننسي ان ارتفاع معدلات النمو التي حدثت خلال السنوات الماضية بدأت بخطوات للاصلاح في مجالي الضرائب والجمارك صاحبتهما حملة اعلانية قوية, ونقاش وحوار مجتمعي كبير, حول امكانية فرض ضرائب اقل للحصول علي موارد أكثر, وبينما ظهر ذلك وكأنه من المستحيلات في البداية, فإنه تحول في النهاية إلي نوع من البديهيات الاقتصادية التي وفرت موارد للدولة تستطيع بها اصلاح الكوادر والمرتبات, وتحقيق المزيد من الاصلاح. وهذه المرة ايضا فإن اصدار حزمة جديدة من الاصلاحات الجذرية في النظام الاقتصادي يمكنها مع إجراءات التحفيز السابقة من الدولة أو القطاع الخاص أن توجد حالة من التفاعلات الاقتصادية الايجابية التي يمكنها ان تجعل العاصفة محتملة من خلال ادخال مجموعات جديدة من المنتجين والمستهلكين الذين يقومون بتوسيع السوق المصرية ويجعلونها قادرة علي الحلول محل الاسواق الخارجية.
وواحد من هذه الاصلاحات الجذرية هو المضي قدما في عملية الخصخصة, ولما كان ذلك صعبا تحقيقه من خلال مستثمر رئيسي أو من خلال الطرح في البورصة في وقت يتباطأ فيه الاقتصاد, وتنخفض فيه أسعار الاصول, فإن فكرة الصكوك الشعبية تبدو في وقتها تماما الآن حيث سوف يحصل مواطنون عاديون علي ملكية اصول مرتفعة القيمة الفعلية في لحظة وصل فيها ثمنها إلي ادني مستوي, وصحيح ان هناك الكثير من المعارضة للمشروع بعضها نتيجة اسباب موضوعية, وبعضها الآخر نتيجة عدم الفهم, وبعضها الثالث لأن الحكومة تبدو كما لو كانت لم تصل بعد إلي الصيغة النهائية للمشروع. ولكن كل هذه الاسباب لاينبغي لها ان تعوق المشروع لانه يمكن ان يكون جزءا من حزمة السياسات الحكومية للتعامل مع الأزمة, ولأن عملية إنضاج المشروع خاصة فيما يتعلق بمن له حق الحصول علي الصكوك يحتاج توافقا مجتمعيا لاينتج إلا من خلال حوار واسع. وفي كل الاحوال فإن الجرعة التي اعدتها الحكومة لاتزال محدودة سواء تم قياسها لحجم الاقتصاد في مصر, أو حتي الاستثمار الخاص في البلاد, أو حتي قياسا لحجم القطاع العام نفسه,
فما نتحدث عنه الآن لايزيد علي نسبة محدودة للغاية سوف تبقي للدولة قدرا غير قليل من التحكم حتي تبين نتائج التجربة كلها. فالأهم من ذلك كله هو النظر إلي الجرعة التي سوف توفرها هذه الخطوة ضمن حزمة متكاملة من السياسات المالية والاصلاحية المطروحة علي الرأي العام الداخلي والخارجي تدفعه إلي المحافظة علي معدلات معقولة من الاستثمار ربما لاترد القضاء ولكنها سوف تحقق اللطف فيه.
مرة أخري فإن موضوع الصكوك الشعبية يمكنه مثل كل الأمور الاقتصادية الأخري من أول الإنفاق العام أو تحفيز الاقتصاد الخاص أو التحرك نحو اجراءات اصلاحية جذرية في الاقتصاد الوطني ـ أن يثير كثيرا من الجدل, ولكن المهم في النهاية ان نفعل, وان نخطو الخطوة الأولي حتي تتلوها الخطوات التالية.
وبصراحة فإنه آن الأوان ان يكون الإعلام عونا, وليس ضريبة عليها, بل ان مهمة الاعلام العام والخاص ينبغي ان تكون لنا وليس علينا ليس بمعني الموالاة أو الممانعة, اذا استعرنا اخر العبارات الشائعة للازمة الفلسطينية الدائمة, ولكن بمعني الفحص الدقيق لكل الموضوعات وشرحها للرأي العام من منطلق انه لايوجد حل كامل لكل المعضلات وانما هناك اقترابات من الحل لا أزيد ولا أقل.
ويحكي ان صديقا سأل صديقه الاعزب لماذا بقي عازبا حتي الآن حيث بلغ من العمر أرذله, فما كان من الأخير إلا ان اجاب بأنه كان يبحث عن العروس الكاملة, فما كان من الأول إلا ان قال معقبا ان الفتاة الكاملة لاوجود لها بالطبع, ولكن الأخير أدهشه حينما قال إنه في الحقيقة قد وجد كاملة الأوصاف هذه, ولكنه لم يتزوجها لانها كانت تبحث عن الرجل الكامل!
الدرس هنا هو انه لايوجد حل كامل للازمات, وانما خطوة نسير فيها بعد أخري ـ وما نحتاجه ـ أيها السادة ـ هو ان نبدأ, فهل نبدأ أم ننتظر الازمة الفلسطينية القادمة بينما البلاد تواجه أخطر الازمات في تاريخها!