مرة أخري، وفي خلال عامين تقريباً، تشهد منطقة جنوب محافظة قنا توترات طائفية بين أبنائها المسلمين والمسيحيين، كانت الأولي في قرية العديسات التابعة لمركز الأقصر شرق النيل، والثانية في مدينة أرمنت الحيط بمركز أرمنت غرب النيل، والثالثة بمدينة إسنا غرب النيل أيضاً.
في هذه المناطق الثلاث التي تقع في مربع جغرافي لا يزيد علي الأربعين كيلو متراً، تكررت المشاهد نفسها تقريباً: واقعة صدام بين عدد محدود من المسلمين والمسيحيين، ثم احتشاد أعداد كبيرة من المسلمين ليعتدوا علي أشخاص أو ممتلكات بعض المسيحيين أو يصطدموا بحشود أخري مقابلة لهم من المسيحيين، ثم انتقال الأخبار إلي منظمات وأقباط المهجر الذين يصدرون البيانات والتنديدات بما تشهده مصر من «مذابح» للمسيحيين من جانب المسلمين بمساندة من الدولة وأجهزتها، مناشدين إخوتهم المسيحيين عدم قبول أي تصالح مع المسلمين إلا بتحقيق كل شروطهم، ثم يحال الأمر إلي المحاكم المختصة ويجري أثناءها التصالح بين الطرفين لينتهي الأمر في انتظار أزمة جديدة.
والحقيقة أن هذا السيناريو الذي بات متكرراً من حيث مشاهده الشكلية لا يعبر عن حقيقة ما يجري بدقة في بر مصر خصوصاً في جنوبه، مما بات يسمي «الفتنة الطائفية».
فهناك بدون شك اليوم وفي كل مكان من مصر هذه المشاعر الطائفية البغيضة التي راحت تتنامي علي حساب كل المشاعر الأخري الحديثة، بما فيها الوطنية العامة والسياسية الفكرية وحتي العائلية الاجتماعية التقليدية، وراحت الانتماءات الدينية الضيقة علي الجانبين المسيحي والمسلم تحل محل كل الانتماءات الأخري الحديثة والتقليدية وتحشد الطرفين في حالة تربص حقيقية، كل تجاه الآخر.
وهناك أيضاً أن «ضيق المعايش» وإغلاق منافذ الرزق أمام الغالبية الساحقة من المصريين من الطبقات الشعبية والوسطي بمسلميهم ومسيحييهم وشيوع الظلم الاجتماعي القاهر لهم أجمعين، قد دفع بهم علي الجانبين إلي البحث فيما يمكن أن يقدمه لهم دين كل منهم ومؤسساته وجماعاته وقياداته من حلول لم يعودوا يجدونها في المجال العام وعلي يد المؤسسات السياسية والاجتماعية الحديثة، وفي مقدمتها الدولة، حتي لو كانت مجرد حلول روحية معنوية وليست مادية حقيقية ملموسة.
وهناك كذلك أيضاً هذه العولمة الجديدة التي أثرت بوضوح في مواقف المسيحيين والمسلمين المصريين تجاه بعضهم البعض، فالطرفان لديهما مشاعر متناقضة نتيجة عولمة الاتصالات، فالمسلمون يشعرون بالاضطهاد علي المستوي العالمي نتيجة السياسات الأمريكية والغربية تجاههم، بينما يشعرون بالقوة في بلدهم بسبب أغلبيتهم العددية، بينما يشعر المسيحيون بالعكس تماماً ونتيجة لنفس الأسباب.
كل هذه الأسباب - وغيرها - هي التي قد تفسر عموماً ما بات يسمي «الفتنة الطائفية» في مصر، والتي لا يمكن إعادتها لمجرد الاختلاف في الدين أو لأوضاع الأغلبية والأقلية العددية بين مسيحييها ومسلميها، فقد كان ذلك هو الوضع المستمر منذ أربعة عشر قرناً، فلماذا تزايدت معدلات وحدة مشاهد تلك الفتنة في السنوات الأخيرة دون غيرها؟ الإجابة في هذه الأسباب بصورة رئيسية.
أما عما حدث في جنوب قنا من أحداث ثلاثة، فالملاحظة الرئيسية هي أن حدثًا واحدًا منها كان سببه المفجر دينياً، وهو ما وقع في قرية العديسات من صدام بسبب ما نقل عن قيام أبنائها المسيحيين ببناء كنيسة دون ترخيص قانوني. وقد تكرر هذا السبب في صدامات طائفية أخري عديدة وقعت بمصر خلال الأعوام الماضية، وهو ما يوجب علي الدولة أن تسارع بإصدار قانون بناء دور العبادة الموحد الذي تطالب به جميع الأطياف المسلمة والمسيحية بما يضع قواعد قانونية واحدة لكل من يريد بناء مسجد أو كنيسة.
أما الحدثان الآخران، في أرمنت سابقاً وإسنا حالياً، فقد كانت أسبابهما المباشرة تتعلق بتصرفات اجتماعية خارجة عن الأخلاق المصرية العامة وتقاليد تلك المناطق من جنوب مصر، وكان المشترك فيها هو وجود فتيات أو سيدات من الجانب المسلم ورجال أو شباب من الجانب المسيحي.
ونتيجة للأسباب السابق ذكرها، فقد تحولت المواجهات كما هي العادة في مثل تلك الأحوال في هذه المناطق من مواجهات عائلية تضطلع فيها العائلة وحدها بأخذ ما تعتقد أنه حقها الأدبي والأخلاقي، إلي مواجهات دينية حلت فيها المشاعر الطائفية الضيقة محل الانتماءات الاجتماعية العائلية، فاتسعت المواجهات لتصبح بين «المسيحيين» و«المسلمين».
إن الأسباب العامة لتكرار مثل تلك الأحداث الطائفية ستظل قائمة في مصر لوقت آخر، ولا أمل حقيقي في تغييرها سريعا، ومن هنا فعلينا توقع حدوثها في المستقبل. إلا أن هذا الاستمرار للأسباب العامة لا يجب أن يمنع عقلاء وقيادات الطرفين من بذل أقصي جهودهم للحيلولة دون هذا التكرار، وفي مقدمتها عدم الانجرار إلي مواقف طائفية متعصبة تزيد من اشتعال النيران وليس إطفاءها.
وفي هذا السياق، فمن الملفت في أحداث إسنا أنه بينما كان المعتدون علي ممتلكات المسيحيين من بعض شباب المسلمين كان محامي التاجر المعتدي علي السيدة المنتقبة مسلماً، وبينما كانت التصريحات والتصرفات العاقلة المسؤولة تأتي من اللواء مجدي أيوب محافظ قنا - المسيحي بالمصادفة - كان القمص صرابامون الشايب، أمين دير القديسين الطود الأقصر، يزيد من إشعال النيران في بيانه الذي وصف فيه أحداث إسنا بأنها صفحة من «كتاب أسود عمره أربعة عشر قرنا»، وأنه مضطر لمخاطبة الضمير العالمي «فالضمير المصري انتقب وتحجب منذ زمن طويل وتفرغ لخرافات وترهات ظلمة البادية والجاهلية». وحتي روايته لما جري شابتها الروح نفسها المحرضة، فما حدث - حسب رأيه - هو أن «خفافيش حراس ظلمة الجاهلية (بدأوا) يضعون في طريق الأقباط المسالمين المطحونين فخاخ الظلم والتعصب والتعسف، متمثلة في محجبة تحرش بها قبطيان، وأخري منتقبة تعرض لها قبطي بعد سرقة شيء من محله التجاري، وتناسوا كل جرائمهم في حق كنائسنا وشعبنا ونسائنا منذ أن لمعت سيوفهم في القديم وحتي اليوم».
في هذه المناطق الثلاث التي تقع في مربع جغرافي لا يزيد علي الأربعين كيلو متراً، تكررت المشاهد نفسها تقريباً: واقعة صدام بين عدد محدود من المسلمين والمسيحيين، ثم احتشاد أعداد كبيرة من المسلمين ليعتدوا علي أشخاص أو ممتلكات بعض المسيحيين أو يصطدموا بحشود أخري مقابلة لهم من المسيحيين، ثم انتقال الأخبار إلي منظمات وأقباط المهجر الذين يصدرون البيانات والتنديدات بما تشهده مصر من «مذابح» للمسيحيين من جانب المسلمين بمساندة من الدولة وأجهزتها، مناشدين إخوتهم المسيحيين عدم قبول أي تصالح مع المسلمين إلا بتحقيق كل شروطهم، ثم يحال الأمر إلي المحاكم المختصة ويجري أثناءها التصالح بين الطرفين لينتهي الأمر في انتظار أزمة جديدة.
والحقيقة أن هذا السيناريو الذي بات متكرراً من حيث مشاهده الشكلية لا يعبر عن حقيقة ما يجري بدقة في بر مصر خصوصاً في جنوبه، مما بات يسمي «الفتنة الطائفية».
فهناك بدون شك اليوم وفي كل مكان من مصر هذه المشاعر الطائفية البغيضة التي راحت تتنامي علي حساب كل المشاعر الأخري الحديثة، بما فيها الوطنية العامة والسياسية الفكرية وحتي العائلية الاجتماعية التقليدية، وراحت الانتماءات الدينية الضيقة علي الجانبين المسيحي والمسلم تحل محل كل الانتماءات الأخري الحديثة والتقليدية وتحشد الطرفين في حالة تربص حقيقية، كل تجاه الآخر.
وهناك أيضاً أن «ضيق المعايش» وإغلاق منافذ الرزق أمام الغالبية الساحقة من المصريين من الطبقات الشعبية والوسطي بمسلميهم ومسيحييهم وشيوع الظلم الاجتماعي القاهر لهم أجمعين، قد دفع بهم علي الجانبين إلي البحث فيما يمكن أن يقدمه لهم دين كل منهم ومؤسساته وجماعاته وقياداته من حلول لم يعودوا يجدونها في المجال العام وعلي يد المؤسسات السياسية والاجتماعية الحديثة، وفي مقدمتها الدولة، حتي لو كانت مجرد حلول روحية معنوية وليست مادية حقيقية ملموسة.
وهناك كذلك أيضاً هذه العولمة الجديدة التي أثرت بوضوح في مواقف المسيحيين والمسلمين المصريين تجاه بعضهم البعض، فالطرفان لديهما مشاعر متناقضة نتيجة عولمة الاتصالات، فالمسلمون يشعرون بالاضطهاد علي المستوي العالمي نتيجة السياسات الأمريكية والغربية تجاههم، بينما يشعرون بالقوة في بلدهم بسبب أغلبيتهم العددية، بينما يشعر المسيحيون بالعكس تماماً ونتيجة لنفس الأسباب.
كل هذه الأسباب - وغيرها - هي التي قد تفسر عموماً ما بات يسمي «الفتنة الطائفية» في مصر، والتي لا يمكن إعادتها لمجرد الاختلاف في الدين أو لأوضاع الأغلبية والأقلية العددية بين مسيحييها ومسلميها، فقد كان ذلك هو الوضع المستمر منذ أربعة عشر قرناً، فلماذا تزايدت معدلات وحدة مشاهد تلك الفتنة في السنوات الأخيرة دون غيرها؟ الإجابة في هذه الأسباب بصورة رئيسية.
أما عما حدث في جنوب قنا من أحداث ثلاثة، فالملاحظة الرئيسية هي أن حدثًا واحدًا منها كان سببه المفجر دينياً، وهو ما وقع في قرية العديسات من صدام بسبب ما نقل عن قيام أبنائها المسيحيين ببناء كنيسة دون ترخيص قانوني. وقد تكرر هذا السبب في صدامات طائفية أخري عديدة وقعت بمصر خلال الأعوام الماضية، وهو ما يوجب علي الدولة أن تسارع بإصدار قانون بناء دور العبادة الموحد الذي تطالب به جميع الأطياف المسلمة والمسيحية بما يضع قواعد قانونية واحدة لكل من يريد بناء مسجد أو كنيسة.
أما الحدثان الآخران، في أرمنت سابقاً وإسنا حالياً، فقد كانت أسبابهما المباشرة تتعلق بتصرفات اجتماعية خارجة عن الأخلاق المصرية العامة وتقاليد تلك المناطق من جنوب مصر، وكان المشترك فيها هو وجود فتيات أو سيدات من الجانب المسلم ورجال أو شباب من الجانب المسيحي.
ونتيجة للأسباب السابق ذكرها، فقد تحولت المواجهات كما هي العادة في مثل تلك الأحوال في هذه المناطق من مواجهات عائلية تضطلع فيها العائلة وحدها بأخذ ما تعتقد أنه حقها الأدبي والأخلاقي، إلي مواجهات دينية حلت فيها المشاعر الطائفية الضيقة محل الانتماءات الاجتماعية العائلية، فاتسعت المواجهات لتصبح بين «المسيحيين» و«المسلمين».
إن الأسباب العامة لتكرار مثل تلك الأحداث الطائفية ستظل قائمة في مصر لوقت آخر، ولا أمل حقيقي في تغييرها سريعا، ومن هنا فعلينا توقع حدوثها في المستقبل. إلا أن هذا الاستمرار للأسباب العامة لا يجب أن يمنع عقلاء وقيادات الطرفين من بذل أقصي جهودهم للحيلولة دون هذا التكرار، وفي مقدمتها عدم الانجرار إلي مواقف طائفية متعصبة تزيد من اشتعال النيران وليس إطفاءها.
وفي هذا السياق، فمن الملفت في أحداث إسنا أنه بينما كان المعتدون علي ممتلكات المسيحيين من بعض شباب المسلمين كان محامي التاجر المعتدي علي السيدة المنتقبة مسلماً، وبينما كانت التصريحات والتصرفات العاقلة المسؤولة تأتي من اللواء مجدي أيوب محافظ قنا - المسيحي بالمصادفة - كان القمص صرابامون الشايب، أمين دير القديسين الطود الأقصر، يزيد من إشعال النيران في بيانه الذي وصف فيه أحداث إسنا بأنها صفحة من «كتاب أسود عمره أربعة عشر قرنا»، وأنه مضطر لمخاطبة الضمير العالمي «فالضمير المصري انتقب وتحجب منذ زمن طويل وتفرغ لخرافات وترهات ظلمة البادية والجاهلية». وحتي روايته لما جري شابتها الروح نفسها المحرضة، فما حدث - حسب رأيه - هو أن «خفافيش حراس ظلمة الجاهلية (بدأوا) يضعون في طريق الأقباط المسالمين المطحونين فخاخ الظلم والتعصب والتعسف، متمثلة في محجبة تحرش بها قبطيان، وأخري منتقبة تعرض لها قبطي بعد سرقة شيء من محله التجاري، وتناسوا كل جرائمهم في حق كنائسنا وشعبنا ونسائنا منذ أن لمعت سيوفهم في القديم وحتي اليوم».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق