القراءة المتأنية للإعلان الدستوري تكشف أن المجلس الأعلي للقوات المسلحة فضل عدم الاقتراب من حقول الألغام التي زرعها النظام السابق في الدستور واختار المجلس المواد التي وجدها في الدستور الحالي تساعده علي إدارة شئون البلاد، وأصدر بها الاعلان الدستوري المكون من 62 مادة وترك المجلس الأعلي للجمعية التأسيسية التي سيشكلها البرلمان القادم لوضع الدستور الجديد مهمة التعامل مع حقول الألغام.
وقد أصاب المجلس الأعلي عندما أعلن انه لا يريد مصادرة رأي الشعب خاصة في التابوهات التي أوجدها نظامي »السادات« و»مبارك« في دستور »71« وأحسن المجلس الأعلي صنعاً عندما قرر تشكيل لجنة تضم تخصصات متعددة وممثلين عن الأحزاب ورجال القضاء وأساتذة الجامعات لوضع دراسة حول تصور الدستور الجديد لتنقل الي الجمعية التأسيسية نبض المواطن وتكشف عن النقاط التي تحوز اتفاق جميع التوجهات لتأخذها الجمعية التأسيسية في الاعتبار وتضعها في الدستور الجديد حتي يحوز التوافق العام قبل عرضه علي الشعب للاستفتاء عليه لأن الاستفتاء هو موافقة علي الدستور ككل أو رفض له بالكامل علي طريقة نعم أو لا، ولا يوجد انتقاء لمواد معينة لرفضها أو قبولها.
وبعيداً عن الانتقادات التي وجهها المتخصصون من أساتذة القانون الدستوري الي الإعلان الدستوري من انه دستور مؤقت وليس مجرد اعلان دستوري لأنه يضم حوالي 62 مادة وهي في مجموعها أقرب الي دستور كامل، ومن أن عملية انتقاء المواد لا تحدد لماذا تم تصعيد مادة وترك أخري، وكذلك لم يعترف بعض أساتذة القانون الدستوري بما يسمي بالقواعد فوق الدستورية التي أضيفت الي الاعلان الدستوري، وقالوا انها مواد موجودة في الدستور وتم اعتبارها مواد فوق الدستور للتأثير علي رأي الجمعية التأسيسية، كما قالوا ان هذا الاعلان يعيد دستور »71« ليبقي الحال علي ما هو عليه، كما تساءل بعض أساتذة القانون الدستوري عن أسباب اختصار اختصاصات مجلس الشوري في الاعلان الدستوري وعدم طرح هذا التوجه ضمن الاستفتاء علي تعديل الدستور لأخذ رأي الشعب فيها.. أقول بعيداً عن الكلام السابق إن هناك قضايا مهمة أخري لمسها الاعلان الدستوري تحتاج الي توضيح لأهميتها في الانتخابات البرلمانية القادمة والتي بدأت الاستعدادات لها ويؤدي غموض هذه القضايا إلي إثارة البلبلة.
الاختصاصات الاستراتيجية
فمثلاً نسف الاختصاصات الاستراتيجية لمجلس الشوري كما جاء في الاعلان الدستوري وتركه أشبه بخيال المآتة علي المسرح السياسي لابد أن ذلك يعتبر من جانب المجلس الاعلي للقوات المسلحة ضوءاً أخضر للقوي الوطنية التي ما تركت مناسبة إلا وطالبت بإلغاء هذا المجلس الذي ولد ميتاً بأنه آن الاوان للاستغناء عن خدماته وتوفير الميزانية الضخمة التي يستقطعها من قوت الشعب كل عام للانفاق علي مكلمة لا تقدم ولا تؤخر والاكتفاء بالمجالس القومية المتخصصة والتي تقوم بنفس الدور الذي يقوم به مجلس الشوري في إعداد التقارير.
فلا يجب أن يستمر مجلس الشوري بعد ذلك (ونثر) رايح.. جاي بعد أن أعلن اللواء ممدوح شاهين عضو المجلس الاعلي للقوات المسلحة في المؤتمر الصحفي خلال تدشين الإعلان الدستوري أن مجلس الشوري تم تقليص اختصاصاته الي أقصي حد. وكشف الاعلان عن إلغاء اختصاصات مجلس الشوري فيما يخص وجوب موافقته علي الاقتراحات الخاصة بتعديل الدستور ووجوب موافقته علي 33 قانوناً مكملاً للدستور والغاء اختصاص نوابه في تقديم طلبات المناقشة والاقتراحات برغبة.
ويذكر ان هذه الاختصاصات أضيفت الي مجلس الشوري في عهد رئاسة صفوت الشريف له خلال التعديل الدستوري الذي تم عام 2007 مجاملة للشريف الذي سعي لتوسيع سلطاته كرئيس لمجلس الشوري كعلاج للازمة النفسية التي مر بها بعد استبعاده من الحكومة كوزير للاعلام في اطار خطة جمال مبارك لإقصاء الحرس القديم.. وها هو اليوم يعود مجلس الشوري كما تعود ريما الي عادتها القديمة وينحصر اختصاصه في مجرد تقديم الرأي في مشروعات القوانين التي يحيلها اليه رئيس الجمهورية والموضوعات الأخري التي تتصل بالسياسة العامة للدولة ومشروع الخطة العامة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية.
بخلاف وظائف أخري هامشية مثل دعم الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي الي آخر هذا الكلام الذي لا يقدم ولا يؤخر ولا يستحق أن يخصص له مجلس ينعم فيه 264 نائباً بالحصانة البرلمانية.. وما أدراك ما الحصانة ـ خاصة عندما يتمتع بها أشخاص لا يهشون ولا يتشون ويرتكبون الضجيج بدون طحن ويحصلون علي مكافآت وبدلات عن ذلك رغم ريع الحصانة المفتوح ويحملون الدولة نفقات لا طائل من ورائها، وبالتأكيد ان المجلس الأعلي للقوات المسلحة مقتنع بإغلاق هذا المنفذ لأن استمراره بشكله واختصاصه الجديد يعتبر اهداراً للمال العام وباباً خلفياً يستخدمه المحصنون في أمور غير التي قررت من أجلها الحصانة.. ثم حصانة من ماذا ولماذا.. إن مجلس الشوري لم يؤخذ بأي رأي له منذ انشائه عام 1980 حتي في ظل تمتعه باختصاص دستوري بعد تعديلات عام 2007 فهو مجلس مات قبل أن يولد وينتظر قرار الدفن. وبالتأكيد ان المجلس الأعلي للقوات المسلحة أصدر تصريح الدفن وترك اللجنة التأسيسية المكلفة بوضع دستور جديد والمعروفة بـ»لجنة المائة« القيام بباقي الاجراءات وتشييع الجثمان الي مثواه الأخير.
اللغم الثاني الذي ابتعد عنه الاعلان الدستوري هو نسبة العمال والفلاحين في مجلسي الشعب والشوري والمحددة بنسبة 50٪ من أعضاء المجلسين.. هذه القسمة غير دستورية لأنها اعتمدت علي التمييز والكلام عن التمييز الايجابي الذي يتردد لتبرير استمرار نسبة العمال والفلاحين هو كلام غير منطقي وكلام مسخرة لأن التمييز هو التفرقة والتفضيل والانحياز ولا يوجد شيء اسمه تمييز ايجابي وتمييز سلبي.
التميز غير دستوري وأصبح الغاء هذه النسبة ضرورة حتمية خاصة بعد أن أصبحت مقدمة للغش والتدليس والتزوير والخداع يلجأ اليها البعض للتحايل علي القانون من أجل الترشح للبرلمان علي هذه الصفة، خاصة اذا كانت لا تتوافر في المرشح، واذا أخذنا مثالاً حياً من مجلس الشعب أو مجلس الشوري لمعرفة مدي انطباق صفة الفلاح أو العامل علي نواب أي من المجلسين سنجد أن الفلاح ضابط سابق برتبة لواء طيار، والعامل طبيب أو مهندس أو أستاذ جامعي. واذا سألت عن أسباب وجود ضابط فلاح وضابط آخر زميله فئات وطبيب عامل أو فلاح وزميله الآخر فئات.. الي آخر هذه التناقضات ستكتشف انه لا يوجد تطبيق دقيق للقانون الذي حدد الفلاح بأن تكون الزراعة عمله الوحيد ومصدر رزقه الرئيسي ويكون مقيماً في الريف.
وألا يحوز هو وزوجته وأولاده القصر ملكاً أو ايجاراً أكثر من عشرة أفدنة ويعتبر القانون العامل عاملاً هو من يعتمد بصفة أساسية علي دخله بسبب عمله اليدوي أو الذهني في الزراعة أو الصناعة أو الخدمات ولا يكون منضماً الي نقابة مهنية أو يكون مقيداً في السجل التجاري أو من حملة المؤهلات العليا، واستثني القانون أعضاء النقابات المهنية من غير حملة المؤهلات العليا ومن بدأ حياته عاملاً وحصل علي مؤهل عال، كما يكون الشخص عاملاً اذا كان مقيداً في نقابة عمالية. ولو فتشنا عن تطابق هذا القانون علي أعضاء مجلسي الشعب والشوري علي مدي الفصول التشريعية السابقة لن نجد عدداً يعد علي أصابع اليد الواحدة من العمال والفلاحين تنطبق عليهم الاوصاف السابقة ونجد الباقين قد حصلوا علي هذه الصفات بالتزوير والغش للاستفادة من هذه النسبة التي ترجح فوز المرشح عمال علي الفئات للوصول الي 50٪ عمال وفلاحين في المجلس.
كما يلجأ البعض الي انتحال هذه الصفات للهروب من الترشح علي صفة فئات أمام مرشح قوي في الدائرة يحمل نفس الصفة أو هي لعبة كان يمارسها الحزب الوطني السابق في الانتخابات للفوز بالمقاعد، اذن لا فائدة تعود علي الوطن ولا علي الشعب ولا علي البرلمان والاداء من وراء الاحتفاظ بنسبة العمال والفلاحين طالما أن النواب الذين تفرزهم أعمال التحايل علي القوانين لا يمثلون هذه الفئات فتجد أن رجل أعمال عامل، وأحد الاثرياء فلاح، وطبيب ومهندس واستاذ جامعي وهكذا..
القضية الاخري الغامضة التي وردت في الاعلان الدستوري هي لماذا قرر المجلس الأعلي للقوات المسلحة في الإعلان الدستوري أن من بين اختصاصاته سيكون تعيين العشرة المنصوص عليهم في الدستور بمجلس الشعب، ولماذا ترك مهمة تعيين ثلث مجلس الشوري للرئيس القادم.
ما هي الفلسفة من وراء تعيين وتعيين. والقضية المهمة التي كشف عنها الاعلان الدستوري هي عدم النص فيه علي المادة 134 من الدستور التي تجيز لرئيس مجلس الوزراء ونوابه والوزراء ونوابهم أن يكونوا أعضاء في مجلس الشعب، وكانت هذه المادة تنطبق علي مجلس الشوري أيضاً، فهل يعني تجاهل هذا النص هو استبعاد ترشح الوزراء للمجلسين، إذا كان الهدف هو ابعاد الوزراء عن الجمع بين منصب الوزير ومنصب النائب فيكون المجلس الأعلي للقوات المسلحة قد أحسن وأنصف للقضاء علي ظاهرة تكالب الوزراء علي الترشح لعضوية البرلمان طمعا في الحصانة وادخارها لوقت يطرد فيه من منصب الوزير، كما أن التجارب السابقة التي شهدت جمع الوزراء بين المنصب الوزاري والنيابي اثبتت فشل هذا النظام خاصة أن الوزير سيظل منتمياً إلي مجلس الوزراء وليس إلي مجلس الشعب رغم تقاضيه مكافأة المجلس، كما أثبتت التجارب عدم تمثيل الوزير لدائرته وعدم الحديث باسم ناخبيه، وعدم تواجده معهم، أو قضاء مصالحهم، فالوزير يستمر وزيراً، حتي بعد خطف مقعد الدائرة، وكثف النظام السابق من ترشيح الوزراء خلال الادوار الماضية، وبلغ عددهم في مجلس الشعب حوالي 9 وزراء وفي الشوري حوالي 5 وزراء في محاولة للسيطرة علي الدوائر وابعاد مرشحي المعارضة والمستقلين عنها، استغلالاً لنفوذ الوزير، وتزايد فرصه في الفوز استنادا إلي غرفة من المال العام ومخصصات وزارته واستغلاله لأجهزة وامكانيات الدولة في زغللة عيون الناخبين، ويتنكرهم بعد فوزه.
الترشيح للبرلمان
ويتوقع أن تصدر دعوة من مجلس الوزراء يقودها الدكتور عصام شرف رئيس مجلس الوزراء بمطالبة الوزراء بعدم الترشح في البرلمان القادم إذا كان عدم النص علي المادة الدستورية التي يجز ترشيحهم في الاعلان الدستوري لا يعني منعهم من الترشح، وتكون دعوة »شرف« هي تكريم الثوار، وتنازل الوزراء عن حقوقهم في الترشح لهم، لمساعدتهم علي خوض الانتخابات، وتمثيل شباب الثورة حتي قبة البرلمان، وأن يثبت الوزراء انهم لن يتكالبوا علي الترشح كما حدث في المجلس الاخير، تكريما للثوار، خاصة انهم وزراء تسيير أعمال جاءوا إلي مواقعهم للقيام بواجب اجتماعي وهو انجاح الثورة وليس للانقضاض علي مقاعد البرلمان.
ثم نأتي إلي اللغم الثالث في الاعلان الدستوري وهو »الكوتة« والذي عرف بقانون تمكين المرأة في البرلمان، وفاز علي أساسه 64 سيدة في جميع المحافظات في منافسات اقتصرت علي السيدات فقط في مجلس الشعب، ولم تطبق هذه التجربة التي بدأت في الانتخابات السابقة في مجلس الشوري، لأن هناك فرصة لزيادة عدد المعينات فيه من نسبة الثلث المعين بقرار جمهوري.
وجاءت الكوتة في الاعلان الدستوري مما يعني الاحتفاظ بمقاعد المرأة في مجلس الشعب القادم، وسيتم حظر الكوتة في الشوري، ونص قانون تمكين المرأة علي تطبيق الكوتة لمدة فصلين تشريعيين أو 10 سنوات فقط للالتفاف علي الطعون الدستورية احتجاجا علي تمييز المرأة والذي اعتبره النظام السابق تمييزاً إيجابياً كما قالت قبل ذلك علي نسبة العمال والفلاحين، وخاضت المرأة الانتخابات السابقة بنظام الكوتة، وفازت معظم النائبات وعددهن 64 بالتزوير، وصادف سوء الحظ نائبات الكوتة حيث تم حل المجلس السابق بعد ثورة 25 يناير، قبل مرور شهرين علي أول تجربة للكوتة، ولم تسمح هذه الفترة بالحكم علي أدائهن رغم ان بدايتهن كانت غير مبشرة، وتخوض مرشحات الكوتة الانتخابات القادمة كآخر فرصة لهن بعد احتساب الشهرين اللذين انقضيا من المجلس السابق دورة كاملة، والانتخابات القادمة تعتبر اخر دورة، وربما كان ذلك وراء عدم تدخل المجلس العسكري لاتخاذ أي اجراء مع الكوتة لمنحهن الفرصة الاخيرة، وستلغي الكوتة من الدستور الجديد، وتعود المرأة لمنافسة الرجل بدون تمييز، وستكون فرصهن في الفوز أفضل مما كان قبل الكوتة، بعد زوال موانع في منافسة الرجل علي المقاعد العادية قد زالت مثل العنف والبلطجة والتعصب للرجل والقبلية المتشددة ضد المرأة وستحصل المرأة علي حقها مقابل استعدادها لتمثيل الدائرة التي تخوض الانتخابات فيها.
ثم نأتي اخيرا إلي نظام اجراء الانتخابات الذي مازال غير واضح حتي الان رغم ترجيح النظام الفردي، في مواجهة اصرار الاحزاب علي نظام القائمة النسبية الذي يؤدي إلي تقوية الاحزاب. وهناك كلام عن الجمع بين الفردي والقائمة، وسيتحدد النظام الذي سيؤخذ به وخلال التعديلات المرتقبة لقانون مجلس الشعب.
ونقطة اخيرة في القراءة للتعديلات الدستورية حيث ترددت شائعة عن اجراء انتخابات مجلسي الشعب والشوري في يوم واحد علي 3 مراحل، أي أن المحافظات التي سيقع عليها الدور في الانتخاب ستستقبل دوائرها وصناديق الاقتراع فيها الناخبين لاختيار عضوين لمجلس الشعب أحدهما عمال والثاني فئات في صندوق خاص واختيار عضوين لمجلس الشوري أحدهما عمال اختيار والآخر فئات في صندوق آخر عضوتين »كوتة« أي سيدتين احداهما عمال والثانية فئات في صندوق ثالث.. أي لخطبة هذه ومن أين نأتي بالوقت الذي يتسع لذلك وكيف يتمكن الأميون والعجزة وكبار السن من اختيار 6 أعضاء في 3 ورقات وكيف تستطيع جميع الناخبين التنقل علي 3 صناديق وكيف ستعرف لجنة الانتخاب الخصوصية المطلوبة للناخبين لاختيار المرشحين، وكيف يتمكن المرشحون شعب وكوتة وشوري من الدعاية الانتخابية، وتشمل السرادقات ولافتات الدعاية، وكيف يتم تأمين كل ذلك، نرجو أن نكون هذه الشائعة.. شائعة فعلا.. وأن تكون الحقيقة هي نظام أكثر تنظيما تتجسد فيه الديمقراطية وحرية الرأي وحرية الاختيار في أبهي صورها.
هناك تعليق واحد:
الله اكبر عليك يا وحش يا قائد ثوره ارمنت
إرسال تعليق